05 - 05 - 2025

صباحيات | حروب الجيل الرابع والخامس والسادس والجيل زد أساسها واحد: الحرب النفسية

صباحيات | حروب الجيل الرابع والخامس والسادس والجيل زد أساسها واحد: الحرب النفسية

كنت استعد للكتابة في موضوع عن "الميزان والتوازن والاتزان"، وهو من الأبواب التي تدخل في باب فقه المعاملات، حتى شاهدت رسالة مصورة للصحفي اللبناني ناصر قنديل، رئيس تحرير جريدة "الشرق الجديد"، عن الهزيمة النفسية، وهي رسالة غاضبة بسبب الوضع المتردي الذي وصل إليه العرب، حكومات ونخب وشعوب، في مواجهة حرب "الإبادة" المستمرة منذ أكثر من أربعة عشر شهرا على الشعب الفلسطيني في غزة، والتي لا يلوح في الأفق وقفها. لكن ما دفعني للكتابة بالأساس كان موضوع محاضرة لأحد قادة الأركان المتقاعدين على مجموعة من شباب أحد الأحزاب المصرية نهاية الأسبوع الماضي بمناسبة ما يجري في سوريا. استمعت بانتباه شديد للمحاضرة المستلهمة من برنامج للتدريب مستمر منذ ثورة 25 يناير وما بعدها، ملخصه أن ما يعرف بانتفاضات الربيع العربي ليس سوى مؤامرة كونية، تنفذها قوى محلية لخدمة مشروع الصهيونية العالمية، وعلى الرغم من الرسالة الخفية في ثنايا حديث الرجل الذي راح يشوه ويشهر بكل رموز المعارضة المصرية وبشخصيات لها ثقل ثقافي كبير، ويصورهم وكأنهم مسخرين لتنفيذ تلك المؤامرة، وعلى الرغم الاستشهادات لباحثين ومخططين استراتيجيين أمريكيين وقادة إسرائيليين، وتصوير كل ما يحدث في مصر في مجال التعليم والثقافة والإعلام كجزء من مؤامرة وضعت خطوطها العريضة في كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون"، وهو من بين الكتب الأشهر والأكثر رواجاً في العالم العربي.

لم تتضمن محاضرة الدكتور اللواء كلمة واحدة عن سوريا، ولم تتضمن أي إشارة، ولو بشكل غير مباشر، إلى ملف الفساد، وصلته بمعظم ما أشار إليه من حالات. استعدت من الذاكرة وأنا استمع للمحاضرة مسلسل "عوالم خفية" بطولة الفنان الكبير عادل إمام لأكتشف أن فريق العمل في هذا المسلسل أكثر وعيا وشجاعة وجرأة في تناول الموضوعات المثارة، والأهم أنهم أكثر اتساقاً وتوازناً ومنطقية، لأنهم لم يتوقفوا عند ظاهر الأحداث وحاولوا البحث في منطقها، وصلتها بما نشهده في حياتنا اليومية، وكانوا أكثر جرأة في الإشارة إلى شبكات الفساد وتشابكاته مع السلطة وآليات عمله. لكن لم يكن الغرض من المحاضرة هو التوعية والتدريب لجيل يتطلع للمستقبل ويتواصل عبر أدوات جديدة مع التيارات المختلفة للفكر في العالم وبكل اللغات، وإعداده للتعامل مع الثورة العلمية والتكنولوجية وما تتيحه من فرص وتحمله من تحديات ومخاطر، وإنما الغرض هو التدجين الذي يعبر عن حالة مركبة من الرفض وقلة الحيلة، بما يولد إحساساً دفينا بالعجز والهروب من المواجهة. لكن حسناً فعل سيادة اللواء حين أشار من حين لآخر لأن المصريين قادرون على الدفاع عن قيمهم وأرضهم، الأمر الذي لم يدركه سيادته ولا من أعد البرنامج التدريبي الذي أتي لتلقينه للشباب دون أي مساحة للحوار، نفس الأداء القائم على الرسالة من جانب واحد لجمهور متلقي في عالم أصبح التواصل التفاعلي لغته الأساسية.

الحس السليم

كثيراً ما يغيب عنا نتيجة لثورة المصطلحات التي تسك كل يوم كما تسك العملات الرائجة، الحس السليم أو الفطرة أو البديهة، وتشغلنا تفاصيل ما يقال عن الجوهر والأساس، ويسهل الجهل والافتقار إلى التراكم المعرفي والتأسيس الأكاديمي المنظم الاستغراق فيما يقوله الآخر والانشغال بتفاصيل ما يفعله، عن التفكير في آليات عملية ومتطورة للتعامل مع الواقع ومتغيراته، وهكذا يحدث ما يطلق عليه المراقبون الانفصال عن الواقع. 

على سبيل المثال، بين يدينا كمتعلمين ومثقفين كتاب على قدر كبير من الأهمية في كل ما يقال عن الحروب بأجيالها المختلفة، وهو كتاب يتناول الركن المعنوي أو غير المادي وغير المرئي في الحروب، ألا وهو الحرب النفسية، والحرب النفسية هي عنوان كتاب صدر في جزئين، يحمل اسم صلاح نصر، مدير المخابرات المصرية الذي ارتبط اسمه بملف الانحرافات، والكتاب على قدر كبير من الأهمية بغض النظر عن ارتباطه باسم صلاح نصر والشهود على انحرافاته. وكان من الأجدر أن يكون هذا الكتاب التأسيسي من بين الأدبيات التي تدرس في برنامج الأكاديمية، بدلاً من كتاب سياسي كتب لمناسبة محددة ولم يكن على القدر نفسه من الإتقان والمعرفة والخبرة المتضمنة في كتاب الحرب النفسية.

الميزة الأساسية للحس السليم أو الفطرة أو البديهة هي معرفة حدود الأشياء، وعدم الخلط بين المفاهيم والاحتفاظ بوضوح الرؤية مهما تكن التفاصيل والفروع والتشابكات، والأهم أنه يساعد على توليد حلول عملية وتلقائية، وعليه فهو نقطة انطلاق أساسية وضرورية لأي مشتغل في البحوث الاجتماعية والتحليل السياسي. 

من المعرفة التي تلقيتها أثناء سنوات دراستي الجامعية وأحفظها عن ظهر قلب ما كان يقوله لنا الدكتور مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة عن قيمة وأهمية شخص من عوام الناس، وأن هناك احتمالا لأن يكتشف سبلاً للوصول إلى الهدف أكثر سهولة من السبل التي يعرفها وتدرب عليها الدارس والخبير المحنك. بالطبع يظل الدارس والخبير المحنك في وضع أفضل لأنه يعرف كيف يصل إلى الهدف المنشود عبر خبرات مجربة يمكن نقلها للآخرين وتطويرها بدقة أكبر من الشخص العادي، لكن لا ينبغي للشخص المدرب أن تغيب عنه فطرة الشخص العادي ولا بديهيته وحسه السليم. وكان يضرب مثلاً لتوضيح الفارق بين الباحث الدارس والمدرب وبين الشخص العادي، ووهما يقفان أمام غابة كثيفة الأشجار ومتشعبة السبل ترمز إلى الواقع في تعقيده وتشابكاته. الباحث المدرب لديه نتيجة الدراسة والتكوين المعرفي والخبرة التي تنقل إليه خريطة توضح له المسارات التي سلكها من سبقه من باحثين استكشفوا الغابة، ويتحرك على هدي من هذه الخريطة ليس لسلوك السبل التي سلكها الدارسون قبله وإنما في محاولة اكتشاف سبلا جديدة أسهل وأيسر وأقل تكلفة من حيث المجهود أو الوقت، وهذا هو منطق الكشف العلمي، الباحث مقيد بالخريطة التي في يديه، لأنها الدليل الذي يرشده في حركته داخل الغابة، واحتمال أن يصل إلى هدفه أكبر بكثير من احتمال وصول الشخص العادي إلى الهدف، لكن تظل للشخص العادي ما يمكن أن تحققه المغامرة من فتوحات وكشف لدروب الغابة، خصوصاً إذا كان مسلحاً في هذه المغامرة بالبديهة والفطرة والحس السليم. الخلاصة التي تعلمتها من هذا الدرس وتغيب عن كثير من الخبراء الذين نستمع إلى آرائهم هي الحرص على الاحتفاظ بالحس السليم والتخلص مما قد يشوشه.

لا شك في أن الاهتمام بالتفاصيل المصاحبة للأدبيات المتعلقة بالحروب وأجيالها المتعاقبة وأنماطها المختلفة والغرق في هذه التفاصيل، بحيث تتحول هذه التفاصيل إلى الموضوع والهدف، على نحو يشوش الحس السليم وتفقد الباحث أو الدارس ملكاته الفطرية ومرونته وقابليته لتعلم المزيد، والأخطر من ذلك عندما يتصور الشخص أنه توصل إلى نظرية شارحة وسليمة، إذ تصبح هذه النظرية، لا الواقع هي نقطة الانطلاق التي تدفعه في كثير من الأحيان إلى ليّ عنق الحقائق وتطويعها كي تتناسب مع نظريته بدلاً من اختبار صحة مقولاتها في ضوء الحقائق والواقع، وينسى شيئاً فشيئاً أن الواقع هو محك لاختبار النظرية وصحة الافتراضات التي تقوم عليها، ويكون أكثر ميلاً لعدم مراجعة تلك الافتراضات ومدى صحتها. وغالباً، ما تكون هذه النظرية قائمة على تصور عام وافتراضات عامة مستمدة من نظريات كبرى مثل "نظرية المؤامرة" التي تفسر الحوادث التاريخية بأنها نتاج لمؤامرات معدة سلفاً، وتمضي وفق تسلسل يفضي حتماً إلى النتيجة المرجو تحقيقها. وكاد المحاضر أن يوصل للمستمعين رسالة بأن الأحداث تمضي وفق ما هو مرسوم في برامج حروب الجيل الرابع والخامس، وأن الكارثة واقعة لا محالة، رغم أن هدفه تحذير جمهور المستمعين للمحاضرة وتسليحهم بالوعي للتصدي والمواجهة، لكن الكلام أيضاً عن أساليب التصدي والمواجهة غاب عن المحاضرة، ولجأ المحاضر إلى لغة الوعظ والإرشاد والانغلاق عن الواقع المتغير بسرعة تفوق القدرة عن أي تفكير فردي.

إن الفكرة الجوهرية في حروب الجيل الرابع والخامس والسادس أو أي شكل للحروب غير الحروب المباشرة، التي تستخدم فيها الأسلحة المادية، وفي الشائعات والبيانات المضللة التي يجري تداولها من خلال وسائل التواصل التقليدية أو المستحدثة، تندرج تحت عنوان الحرب النفسية، التي تستهدف التأثير على الجمهور الواسع وتوجيه سلوكه، أو التي تستهدف إضعافه وإيقاع الهزيمة في نفسه والسيطرة عليه والتحكم فيه. إن أدوات الحرب النفسية والتي جرى تطويرها في سياق ما يعرف بعلم النفس الأسود الذي يستهدف إلى السيطرة على العقول والتلاعب بها مستخدم في كثير من المجالات والأنشطة الدعائية. ولم تعد أساليب التلقين العقائدي والوعظ المباشر والأوامر والنواهي صالحة للتدريب على مواجهة تلك الأساليب الجديدة، وكشف الزيف في كثير مما يتعرض له الجمهور العام في كثير من وسائل الإعلام التي تستهدف تزييف وعيه. ولتزييف الوعي معنى محدد يتمثل في توجيه الفرد إلى أن يسلك سلوكا أو يتخذ قرارات مضادة لمصالحه المباشرة. والعالم كله بات مجالا مفتوحا للمتلاعبين بعقول البشر ووعيهم وإدراكهم، وعلينا أن نتذكر أن أول تطبيق عملي للتقارير المزيفة عبر الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي.
--------------------------------
بقلم: أشرف راضي

 

مقالات اخرى للكاتب

رسائل انتخابات الصحفيين وأولويات مجلس النقابة في الفترة القادمة